إلى أين؟!...
سار بذلك الليل الدامس في طريق طويل...حاملاً تلك الحقيبة الرياضية التي ملأها بأشياء لا يتذكر معظمها...وبانحناءة ظهره النحيل سار،تابع سيره وهو يكاد لا يلتفت إلى الوراء...يكاد حتى لا ينظر يمنة ولا يسرة وكأنه يسير داخل فراغ أو داخل حلم أو وهم شاعراً كأنه معلق ما بين السماء والأرض...
سار بذلك الليل الدامس في طريق طويل...حاملاً تلك الحقيبة الرياضية التي ملأها بأشياء لا يتذكر معظمها...وبانحناءة ظهره النحيل سار،تابع سيره وهو يكاد لا يلتفت إلى الوراء...يكاد حتى لا ينظر يمنة ولا يسرة وكأنه يسير داخل فراغ أو داخل حلم أو وهم شاعراً كأنه معلق ما بين السماء والأرض...
حتى أنه لم يداري خروجه...ولم يتسلل بخفة،فقط سار...كان من المفترض أن تلتمع عيناه بالدموع،كان من المفترض أن ينبض قلبه بشدة وترتعش يداه...كان من المفترض أن ينسى شيئاً ما في طريقه للخروج...لكنه كان كمن تعود الفرار،كمن تعود الرحيل...خرج من ذلك المنزل الذي عاش فيه سنيناً أكثر من نصف عمره...منزل تقاسمه هو وجاره الذي يسكن بالطابق الأسفل...كانوا كعائلة واحدة...أمه...وأخوته...ووالده...والجار وابنه الذي كان أخاً بالنسبة إليه...والآخرون...
لم يحصل ما يدعوا للخروج...لم تحدث مشكلة بينه وبين أحد...لا شيء يدعو للرحيل...
سوى أنه سئم...سئم الشعور بكل شيء ولا شيء...سئم أن يعتاد على طعمٍ واحدٍ للحياة...بالرغم من أنه ليس طعماً سيئاً...ولكنه سئم!...
كان الشعور بالسأم هو من أورث جسده هذا البرود...هو ما دعاه لحمل المهم واللا مهم في آن...والفرار فقط...من لا شيء...
كانت عيناه ناعستان ذابلتان كمن يسير على الهواء...لم يودع أحداً...فهو "ماهر"،ماهرٌ في كل شيء إلا الوداع...لطالما تحاشاه حتى في المجالس يتسلل بهدوء دون أن يودع...لكن حضوره كحضور نجم له ميزته الفريدة...و وداعه يكاد لا يذكر...سوى أنه يخرج فحسب...
لطالما كان يسير مفعماً بالحيوية...لطالما كان يجري وراء شيء ما...حلم ما...دائماً...ولكنه اليوم يسير إلى المجهول...إلى حيث اللا شيء وأي شيء سوى ما تركه خلفه...حتى أحلامه باتت تحاول اللحاق به متأخرة خلف ظله...لأنها الوفية...لأنها من لازمته طوال سنون عمره العشرون...
تعثرت خطوات سيره ليدرك أنه بات أمام محطة القطار...سار نازلاً الدرجات واقفاً أمام شباك التذاكر صامتاً دون أي إيماءات...أخذ التذكرة وسار...حتى دون ابتسامة...
لا يزال كما هو كما كان في بداية هذا الليل الدامس...كمن يسير في حلم كمن يسير في سبات...رغم الزحام،رغم كل الأصوات العالية رغم التدافع البسيط عند باب القطار...إلا أنه ظل كرجل الجليد...سار جلس...أشاح بنظره نحو الزجاج،زجاج النافذة الصغيرة ليحاول الانزواء بعيداً عمن يشاركه المقعد...ذلك الرجل العجوز والسيجارة...تزحزح القطار بعد مدة...أصوات العجلات...صوت بكاء الطفل الرضيع...وانحناءة المضيفة الرقيقة...كل شيء بالنسبة له بات لا شيء...
إنه حتى لا يفكر...هو فقط يسير مبتعداً...هذه عادته يرحل...تاركاً فراغ لا شيء...ويختفي وكأنه أوقف الزمان!...
سار القطار لساعات...نام الرجل العجوز وهدأ القطار...ما عدا أصوات العجلات...لا زال ماهر صامتاً نظر بعينيه الذابلتين ببرود ومن منظر الصمت الذي فاق صمته ابتسم...
رفع حقيبته أخرج قطعة شوكولا لم يتوقع أن يجدها فعاد وابتسم!...
اقتربت تلك المضيفة تحمل قدح الشاي وبعضاً من القهوة...فأومئ ليعبر عن رغبته بتناول كوباً من القهوة،سألته:"سكر؟!...".
ظل صامتاً وكأنه لم يسمعها...فابتسمت ابتسامتها الرقيقة المصطنعة تلك...:"أتريد قطعة سكر؟!...".
فابتسم وتنهد قائلاً:"قطعة سكر!!...نعم من فضلك!...".
كان كمن يبتسم استهزاءً كمن يتعجب من قطعة السكر التي تحاول أن تخفف من مرارة القهوة،أذاب السكر كطفل سارحاً في دوامات القهوة مبتسماً ارتشف كوبه وتنهد مستنشقاً الهواء...وعندما عادت ثانية لتحمل منه الكوب سألها ببرود...بهدوء...بعفوية:"آنستي!...إلى أين يتجه القطار؟!".
تلعثمت...صدمت...توترت...ألا يعرف!؟...وقبل أن تجيب أجاب هو:"لا بأس...فلا تهمني وجهة القطار...اتركيني مع إثارة المجهول...اتركيني متشوقاً إلى الغد بجنون...بغباء مطلق دون أن يكون لدي أدنى فكرة عما سيكون عليه الغد!!...".
ابتسم...فابتسمت هي ذاهبة ولقد ظنت أنه يمازحها...ولم تفهم أنه كان جاداً...كان قاصداً لكل تلك الحروف...فهو لا يعلم شيئاً كل ما أراده هو الرحيل والرحيل وحسب...وقطع الحبال...حبالاً لا أظن أنها ستقطع يوماً!!...
جميلة بما كتبت
ردحذفالبحث عن المجهول في المجهول أحيانا يكون له لذة جميلة في زمننا هذا.
قلمك مميز أبحري ودعي نبض قلبك يكتب للآخر